Get Even More Visitors To Your Blog, Upgrade To A Business Listing >>

نوبة رجوع




نظر من النافذة فوجد المنازل والمزارع تنسحب للخلف وتختفي عن نظره ليحل محلها منازل ومزارع أخرى، وضوء الشمس ينعكس على القضبان المعدنية فضية اللون ليكسبها بريقاً ذهبياً.. لا، لم يكن راكباً للقطار وهذا ما جعله يتعجب.. فقد كان ينظر من نافذة منزله الذي لم يكن أبداً مطلاً على طريق القطار، لكنه تجاهل ذلك، وقرر المضي قدماً فيما هو فيه ليرى في أي محطة سيقف منزله الذي تحول الى قطار متحرك على قضبان..
إستدار فوجد نفسه في مكان يشعر بأنه بيته.. نعم، فهذا أباه وهذه أمه وهذا هناك هو أخاه.. لاداعي للنظر في المكان، فقد عرف أنه بيته ولا يحتاج المرء الى العثور على علامة مميزة ليتعرف بيته، يكفي أنه يرى أهله، فأنبعثت الطمأنينة في نفسه..
نظر حوله لهنيهة، وجد أن أباه قد أحضر شاباً يظهر عليه الفقر و يعمل في مسح الأحذية كي يمسح له الحذاء، ونادى أبوه على شابٍ آخر ليأخذ ملابسه لكيها وأمره بالإسراع بإحضارها، فلم يبد إعتراضه على الرغم من أنه إعتاد مسح حذاءه وكي ملابسه بنفسه..

نظر من النافذة مرة ثانية، لايزال الحال على ما كان عليه؛ فمنزله مازال يمضي للأمام والمنازل من حوله تعود للخلف و كأنها مثبتة على بساط يسحب من تحت منزله-القطار المزعوم.
راوده إحساس بأن موقفه الحالي يشبه ما قرأه يوماً عن أن الجسم الساقط من قطار متحرك يُرى سقوطه بأكثر من شكل حسب مكان الرائي.. فراكب القطار يرى الجسم يسقط على الأرض في خط مستقيم، بينما يرى شخص واقف خارج القطار الجسم ذاته يسقط في شكل قطع ناقص أو منحني، فهو بوسعه الآن أن يري صورتان لنفسه لا يجوز أن تتواجدا معاً إلا إذا كان ينظر من زوايا مختلفة، أو لو كان يحلم..
وهنا جذبه من ملابسه قائلاً في لهجة لوم: أترضى أن يبخسني والدك حقي هكذا، فقد أعطاني مالاً قليلاً جداً على الرغم من إتمامي عملي، وأشار إلى الملابس التى قام بكيّها.. لكنه لم يمعن النظر وأعطى الشاب مالاً حتى أجزله العطاء وأوصله للباب..
أراد الخروج لكنه لم يفعل، أمر ما طرأ على ذهنه و أوحى إليه بالتروي، فموعد الرحيل لم يأت بعد.. ولكنه وجد عشرات الناس يدخلون من الباب وقد أتوا لمصافحته ووداعه.. فهذه خالته التي لثمته وتمنت له التوفيق، وكذا فعلت عمته.. أما جدته فقد إحتضنته ثم رفعت كفيها بالدعاء له.. ثم رأى أناساً ما هم بأقاربه.. فهذا هو الشيخ الجليل ورجل الدين المعروف قد أتى ليصافحه مع أنه لم يره أبداً إلا في المرناة، وهذا مُعلمَه الذي أفاد منه كثيراً أتى أيضاً لوداعه.. وللحظة شعر وكأن الزمن قد توقف وران الصمت على الجميع.. يرى النافذة وقضبان القطار التى أكسبها لون الغروب الأحمر بريقاً نُحاسياً..
شعر بأن منزله -القطار- يوشك أن يتوقف عن السير.. حانت لحظة الوداع وأدرك أنه يحتضر..
سمع لحناً يعزف بـ "نوبة رجوع" وهو لحن يعزفه العسكريون عند تشييع الجنائز.. ولكن مهلاً، ففي لغة الموسيقى العسكرية ما يعرف بـ"نوبة الصحيان"، وهو -أي اللحن- ماصار يرتقب, ويوقن بأنه لن يتأخر ولن يتأخر أحد..
وهاهوذا, يراجع في ذهنه ما بقي عليه من مهام ويشاهد ما حوله فيجد أنه واقف وحده وسط طريق القطار..
فيسترجع ويتشهد، ويسقط على القضبان.



This post first appeared on صفحات من دفتر تدويني, please read the originial post: here

Share the post

نوبة رجوع

×

Subscribe to صفحات من دفتر تدويني

Get updates delivered right to your inbox!

Thank you for your subscription

×