Get Even More Visitors To Your Blog, Upgrade To A Business Listing >>

تاريخ اليهود في مصر والعالم العربي: سنوات الظل والغموض


 

لا ينتمي هذا الكتاب إلى فئة المقالات السياسية التي تُطلِق الأحكامَ الجاهزة وتحتكر الحقيقة.

جُلُّ ما يطمح إليه مؤلف هذا الكتاب هو إنجاز بحث جاد يرتكز على المراجع ويُنقِّب في المصادر ويستخرج المعلومات، بعيدًا عن مقالات الرأي والخواطر الذاتية والكتابة الانطباعية التي تضر ولا تنفع.

يُقدِّم هذا الكتاب لمحات عامة عن اليهود في العالم العربي في التاريخ الحديث والمعاصر، من منظور اجتماعي واقتصادي لا يخلو من إشارات تاريخية تبدو ضرورية لشرح التفاصيل المعنية.

نقول: لمحات؛ لأن الاستفاضة في الحديث عن تفاصيل هذا التاريخ وأحداثه قد تملأ مجلدات؛ لذا اكتفينا بالتركيز على التاريخ الحديث والمعاصر، وهو الإطار الزمني المحدَّد لهذه الدراسة، مع إشارات إلى مراحل سابقة تُلقي الضوء على الوجود اليهودي في المنطقة، والأدوار التي لعبوها، والعلاقات التي ربطت بينهم وبين غيرهم عبر فترات وعهود مختلفة.

حملنا على اختيار هذا الموضوع جملة أسباب، لعل أهمها أن هذا الموضوع لم ينل ما يستحقه لحد الآن من الأبحاث والدراسات الموضوعية باللغة العربية؛ إذ إن موضوع الأقليات العرقية والدينية في العالم العربي ظل حتى زمنٍ قريب، من المسكوت عنه في الكتابات التاريخية والدراسات الاجتماعية والسياسية.

كذلك فإن فترة الدراسة تمثل شطرًا مهمًا من تاريخ المنطقة، وهي فترة معاصرة زاخرة بالأحداث وتنفرد بخصائص وسمات معينة في تاريخ الأمة العربية، بالإضافة إلى أنه لم يُنشَر حتى الآن إلا القليل جدًا مما يتصف بالموضوعية عن هذا الملف، حتى كادت الدراسات والأبحاث حول اليهود في العالم العربي أن تكون حكرًا على باحثين غربيين ومثقفين من تلك الجاليات اليهودية.

ربما بات ضروريًا ترتيب ذاكرتنا، والإحاطة بتاريخ اليهود في العالم العربي، من حيث حياتهم ونشاطهم وانتماءاتهم وموقفهم من الحركة الصهيونية، بعيدًا عن الأحكام الجاهزة والأقوال المرسلة والخلط الذي يعيد تركيب الصورة وفق الأهواء والأمزجة والتصورات العقائدية والفكرية المنغلقة.

يقول ألدوس هكسلي: «إنّ ضعف استفادة البشر من دروس التّاريخ هو أهمّ درس يلقيه علينا التّاريخ»؛ واليوم، أكثر من أيّ وقت مضى، علينا أن نستخلص العبرة من تاريخنا الحديث والمعاصر ودور اليهود في العالم العربي خلال تلك الفترة؛ ويتطلّب هذا الاشتغال على الذّاكرة وضع الأمور في سياقها التّاريخي من جهة، ومن جهة أخرى الإدانة الشّديدة لكلّ من يُقدمون على طمس هذا التاريخ، سواء كان ذلك بإنكاره أو باستغلاله.

نحاول هنا بمنهجيةٍ واضحة ودقةٍ علمية قدر ما تسمح به المصادر والمراجع، إثبات الوقائع التاريخية وتحليلها بطريقةٍ موضوعية، بعد أن غامت الرؤية وانصرف العامة عن استقراء التاريخ وفهم حقيقة ما جرى في القرنين الأخيرين من أحداث وتطورات أعادت تشكيل المنطقة مرة تلو الأخرى، حتى وصلنا إلى ما نحن عليه الآن.

تحكي صفحات هذا الكتاب عن سنواتِ ظلٍ وغموض، فرض المسكوت عنه، وإلى حدٍ ما الخطاب الخارجي والأجنبي، قراءة متناقضة أحيانًا أو مثيرة للشبهات في أحيانٍ أخرى.

ولعل أهم ما استنتجناه أن الطوائف في الدولة جزء من الكل، فإذا سارت الدولة في طريق الحضارة والعمران وتطبيق القوانين والعمل بالدساتير، أخذت الطوائف نصيبها من تلك النهضة وفقًا لفطرتها واستعدادها ومنزلتها في المجتمع.

إن رسم صورة تاريخية للمجتمعات العربية ومكوناتها المختلفة، ودراسة تطور العلاقات بين المسلمين والمسيحيين واليهود الذين عاشوا في العالم العربي خلال تاريخه الحديث والمعاصر، ورصد التحولات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي شكّلت أبعاد هذه العلاقات، تساعدنا على فهم طبيعة هذه العلاقات وتطوراتها وأدوار الأقليات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بعيدًا عن غبار التحيز أو عواصف مصادرة الآراء التي تستحق النقاش.

وحتى وقت قريب نسبيًا، لم يكن التأريخ المهيمن ليهود المنطقة يأخذ في عين الاعتبار مسارات اليهود الذين حاربوا الاستعمار وسعوا للمساهمة في المشروع الوطني لإعادة الإعمار في مرحلة ما بعد الاستقلال. عوضًا عن ذلك، شدّدت غالبيّة السرديات على الهجرات الجماعية لليهود وعلى العداوات بين فئات المجتمع، خاصة في أعقاب احتلال الأراضي الفلسطينية عام 1948 وزرع كيان صهيوني عِرقي اجتثاثي في فلسطين العربية.

ونحن في غنى عن القول إن هناك بونًا شاسعًا بين اليهودية والصهيونية، ولا يجوز الخلط بين الأمرين، خصوصًا حين نعيد قراءة تاريخ اليهود في العالم العربي المعاصر. بلغة المنطق، ليس كل يهودي صهيونيًا بالضرورة، وبلغة التاريخ، فإن العالم العربي شهد يهودًا انصهروا في مجتمعاتهم العربية وشاركوا بإيجابية في النشاط الاجتماعي والاقتصادي، وربما السياسي، تمامًا كما شهد انحياز أفراد ومجموعات يهودية أخرى إلى الحركة الصهيونية، وانضمامهم تحت لوائها.

في تقديرنا أن القراءة المنصفة للتاريخ هي أفضل طريقة للدفاع عن حقوق الإنسان، بغض النظر عن دينه أو جنسيته أو لون بشرته. لقد عملت جماعات الضغط في مواقع صنع القرار بالعواصم الكبرى على إخراس الأصوات المناهضة للصهيونية عبر نخب سياسية وثقافية ترى في معاداة الصهيونية معاداة للسامية ينبغي تجريمها هي أيضًا ومقاضاة أصحابها، بل صارت حتى مناصرة الفلسطينيين مدعاة لتلك التهمة. شيئًا فشيئًا، استُغِل مصطلح معاداة السّاميّة –ذلك المصطلح الأوروبي الذي لم تعرفه البلاد العربية، وترافق مع ولادة الصهيونية السياسية أواخر القرن التاسع عشر- من قِبَلِ السلطات الإسرائيلية ومناصريها في مسعى لنزع الشّرعيّة عن القضيّة الفلسطينية وإسكات صوت المدافعين عن الحقوق العادلة والشرعية للفلسطينيين. لقد بات لزامًا علينا تنقية المفهوم -الذي تحوّل إلى أحد مرتكزات الاستراتيجية الصهيونية- من الاستغلال السياسي أو الديني والدعاية الفجة التي تصادر حقوق الآخرين وتكمم الأفواه. وأيًّا كانت الذّريعة فلا يمكن التّسامح مع أيّ تعبير عن الكراهية تجاه اليهود من حيث كونهم يهودًا في أيّ مكان من العالم. في الوقت نفسه، لا يجوز تجاهل حقوق الفلسطينيين والعرب في أرضهم وتاريخهم وممتلكاتهم.

وإذا كنا نتناول في صفحات من كتابنا جانبًا من حياة اليهود في العالم العربي الحديث والمعاصر والمآلات التي صاروا إليها، فإننا لا يجوز أن ننسى حقيقة تعرُّض الشعب الفلسطيني إلى سلسلة من سياسات التهجير الممنهجة والهادفة إلى تشريد الشعب الفلسطيني واقتلاعه من أرضه، كان أبرزها في نكبة عام 1948 والتي أدت إلى تشريد غالبية الشعب الفلسطيني. حقائق التاريخ تُثبت أيضًا أن إسرائيل لم تتوقف عن تهجير الفلسطينيين سواءً نفذت ذلك من خلال القوة العسكرية المباشرة أو من خلال سياسات وقوانين عنصرية تفرضها على الفلسطينيين يوميًا بهدف تهجيرهم والسيطرة على أكبر مساحة من الأرض بأقل عدد من الفلسطينيين.

الشاهد أن أغلبية يهود البلاد العربية غادروها نتيجة لمخططات الحركة الصهيونية وانتهاجها أساليب الترهيب والترغيب، بهدف هز استقرار اليهود الموجودين في البلدان العربية، وجذبهم إلى إسرائيل، تلبية لاحتياجاتها من الطاقة البشرية من جهة، وللقوة العسكرية من جهة أخرى.

ولعل أحد أهداف الكتاب هو تقديم رواية أقرب إلى الحقيقة لحياة يهود البلاد العربية، بدلًا من التاريخ المختلق والمفبرك الذي تتبناه الصهيونية، تمامًا كما تبنت وبلورت رواية تاريخية وأساطير تأسيسية عن حرب 1948، وتجاهلت «الثقوب السوداء» الكثيرة التي رفضت -وما زالت ترفض- الرواية التاريخية الإسرائيلية رؤيتها.

إن البحث عن الحقيقة يتطلب رؤية هذه «الثقوب السوداء»؛ لأنه من غير الممكن الحياة في خداع ذاتي مستمر، ولأن مواجهة الحقيقة أفضل بكثير من التنكر للحقائق التاريخية، وأكثر جدوى من العمل على استمرار فرض وهيمنة رواية مليئة بالأكاذيب. دعونا نشير إلى أن إسرائيل الرسمية ما زالت تتنكر حتى الآن لمجرد حدوث النكبة، وترفض الاعتراف بأن عصابات صهيونية طردت الفلسطينيين من أكثر من 532 مدينة وقرية، وأنها قامت بتدمير معظمها الساحق وأسست على أنقاضها كيبوتزات وبلدات ومدنًا يهودية، وعملت على توطين مهاجرين يهود في بيوت القرى والمدن الفلسطينية التي أبقت عليها.

إنّنا نعتبر أنه من المشروع والضّروري استقراء التاريخ الحقيقي حتى نتجنب المزيد من جرائم الإبادة الأخرى في العصور الحديثة، بل إنه ينبغي أن تكون هذه القراءة الموضوعية لتاريخنا المعاصر وهذا التنوع في تاريخنا الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، ضمن تربية الأجيال الجديدة في مواجهة كلّ أشكال الأحكام النّمطيّة والكراهية العنصرية.

ولعل أقصى ما يطمح إليه هذا الكتاب هو اختراق مكبوت البحث التاريخي وفتحه على تخوم غير مفكر فيها، إذ كلما جدد المؤرخ وثيقته يجد نفسه داخل أراضٍ لم يحلم بها من قبل.

يبقى القول إن عملية البحث عن المراجع والمصادر بلغاتٍ مختلفة استغرقت مدة غير قصيرة وجهدًا غير هين، لكنه مع ذلك كان مفيدًا ونافعًا للباحث ولمادة الكتاب في شكلها النهائي.

ونرى لزامًا علينا في نهاية هذا التقديم أن نشير إلى أن هذه الدراسة لا تستطيع أن تدعي الكمال أو الخلو من التقصير، فهي ليست إلا محاولة متواضعة لتقصي جوانب موضوع اليهود في العالم العربي الحديث والمعاصر، وهي خطوة أولية نرجو أن تكون هاديةً لمزيد من الدراسات المعمقة على يد الباحثين مستقبلًا.

أتمنى لكم قراءة تجمع بين الفائدة والمتعة.

---

من مقدمة كتابي "تاريخ اليهود في مصر والعالم العربي: سنوات الظل والغموض"، دار دوِّن، القاهرة، 2023



This post first appeared on قبل الطوفان, please read the originial post: here

Share the post

تاريخ اليهود في مصر والعالم العربي: سنوات الظل والغموض

×

Subscribe to قبل الطوفان

Get updates delivered right to your inbox!

Thank you for your subscription

×