Get Even More Visitors To Your Blog, Upgrade To A Business Listing >>

10 قبلات منسية




الهدوء الخادعُ يؤلف قصصًا عن عوالم بارعة من الفتنة والألم..

ونحن نرويها!

وأنا كسرتُ محارتي الوحيدة، وحملتُ قوقعةً عتيقة، عشتُ أُنصِتُ إلى وشوشةِ البحر فيها، ومددتُ مائدةَ الحكاياتِ العامرة والكتابة المجرَّحة. لم تشغلني في تلك المغامرة الإبداعية أي أبنيةٍ شكلية، بقدر ما اهتممت بإجلاء الغبار الهائل عن مشهدٍ ضرير.

كنتُ سأقولُ للعالمِ كلامًا طارئًا؛ ولأن العالمَ أصم، فقد صرتُ أكتب.

كتبتُ..

عن الدفء المجاني الذي يغسل قلبًا يخفق في العراء

والخسائر الشخصية المعلقة على حبالٍ متهالكة

والأحزان التي تُعيرُني دَمَها كلما حل المساء

والغيمة التي يتكئ عليها العشاق تحت سماء ناقصة

والأصدقاء الذين خبأتُهم في جيب أيامي

وعازف الناي الأخير في شارع المحزونين

والمرأة التي ضيّعت جهاتي حين قلتُ لها: أنتِ دينٌ لوحده

والرغبات التي يقدُّ عُريُها الفادحُ قميصَ الليل

والثغر اليتيم حين يُحرم من اللثم

والصراعات الخفيّة مثل عقربٍ في الحذاء

والبروق التي تنفجرُ في الأفق ولا تخجل من عُريها

والقُبلة التي تجسّ الهواء ثم تغفو على الشفاه

والعسل في الجرار، الجائع إلى الجحيم

والخطوط الفريدة التي تنسجها مواسمُ الربيع

والجُمَل التي تطول كالمفاصل بحثًا عن الجمال

والنهر الذي يُقرِضُ المراسي نعومتَه

والوجد الذي يحفـره الليلُ فـي بؤبؤ العين

وحده القابضُ على جمر قلبه، بوسعه أن ينزف قصائد.

ولأن الغرام خروجٌ على النص، فإننا نجده يميل إلى الخطط المُلغاة، والأيام الممطرة، والأسِرَّة الفوضوية وثياب النوم البالية..

في سلال الليل، يعبئ شظايا قمرٍ مكسور، وحين يطلع الفجر يختبئ في جرة عسل.

وإذا كان الحُبُّ حنجرة تنحاز إلى القُبل على حساب الكلمات، فإن هذه المشاعر تجترح معجزات، أبسطها أن تنقلب النظرة إلى غيمة، واللمسة إلى شجرة، والشفة إلى هاوية.

عالقًا في شراك الوقت، نظمتُ هذه القصائد في الساعة التي أكون فيها مرتبكًا ومُربِكًا، كي أطلقَ ألوانَ السعادة القصوى، وأرى وجهي في السطر المنفلت من مرايا الحياة.

ولأن الشِعر يمنحني رغيف أمل، قبل عودة راياتي المنهكة إلى بيت أحزاني، فقد شرعتُ في الحُبِّ قبل أن أضم القصيدة. لن أصف ما جرى لي حين ذقتُ العطاء الغامض في الأشياء نصف الممنوحة أو نصف المكبوحة، أو حين عشتُ الغروبَ المتكرر اليائس ورأيتُ قمرَ الضواحي المتعرجة. فقط أقول إن قصائد الغرام هي بذرة ذاتي التي ادخرتها بطريقةٍ ما، وحبة القلب التي ذابت في كأس الحنين.

ماذا تفعل بنا القصيدة؟

تُفهرِسُ الجمال وتُخلِّدُ الأشواق.

الآن، أروي لكم، أنا المجبول على الكبرياء، عن الندى الذي ظل يقطر من وردة أيامي حتى صار بين أيديكم عنوانَ الكلام.

أكتبُ، ولا أحد ينتبه لحدة النزيف.

ولأنه لا شيء يردُ غيبة الكاتب مثل كتاباته، التي تمر تحت أسنان المطبعة، فقد تركتُ للكلمات مهمة رسم ملامحي، كعاشقٍ حقيقي للحياة، يتشبث بالتفاصيل الصغيرة، ويتحايل على الصعاب بالورد والقصائد. قد يعتصره الألم، لكنه لا يفقد الأمل. كلما ضربتْ الرِّيحُ حنجرته اليابسة، طيَّرَ بالوناتٍ تمتدحُ الوقتَ وفراشاتٍ تومِضُ في الصُّور. وحين يعانقُ حبيبته، يضيء سعة الكلام ويُضيّعُ الطـريقَ إلى الهـاوية.

ولأنه ﻻ أرصفة للأقدامِ المترددة، فقد استضفتُ الغاباتِ والأنهارَ في غرفتي لتنتخبَ المرأة التي تستدرجُ المياهَ الفائضة إلى سريرها، وتسبغ على الملاءة ربيعها المُكمِّل، وتورق تنهداتها ذروة العذوبة.

اللغة هي إضافتي التي تعوض ما في الحياة من نقص وخسران. ذلك أنه من الجيد أن نصوصي لم تهرمْ معي، بل احتفظت بمَلَكات الحُلم والسؤال والشغف والهوى والدهشة. بالكتابة التي ترتل آيات الفرح، رممتُ اللغة المتثاقلة وروّضتُها كي تستغني عن جلدها العتيق، ثم صنعتُ من ضفائر الليل قصة حُبٍّ لا تحفظ غير أسطورتها الخالدة.

في خندق الوقت، هناك حروفٌ تتحرك في كل اتجاه، وكلماتٌ مثل أرضٍ زلقة، ومعانٍ تُصلبُ في الهواء. النص هنا بابٌ موارب بين الحياة والموت، وفضيحةٌ تترنح وسط الضباب.

وبين دفتَي هذا الكتاب يتورط الجميع، ونتعلم نحن القراء والمبدعين فن الخضوع للمحبوب بلا حذر.

وأنا تعلَّمتُ في حياتي أن الجسدَ جاذب، لكن العقل جذاب.

اخترتُ التي كلما بانتْ منها الجذورُ الناعسة، دفـنتُ رغباتـي الهاربة بكامل زينتِهـا، وتوارت أوجاعي الممتدة، لتتحول نوتة الحنين الموحش في قلبي وفي رئتي إلى لحنٍ مكتمل.

انتخَبُوها لكي تبقى دائخة من النشوة، وأنا اكتفيتُ بصفحة بيضاء لأُجَـنّ.

هكذا كتبتُ عنها وهي في الأسود الصّفيّ، الذي يبعث فينا الشوق، قَبلَ الموتِ وقبلَ الحياة..

وهي في الأبيض الناصع، الذي يشبه إشراق الحياد وكمال النقصان؛ إذ يرتقي ريحَ الطريق..

وهي ترتدي لونَ الحقل، أو البحر، أو الشجر، أو النهد.

تضع كل شيء، لكنها لم تضلل يومًا لونَ شفتيها الحارتين.

هذه النصوص في نَفَسِها البطيء وتمهُلِها، هي نثرٌ يبلغ تخومَ الشعر، وهي -ببنائها القائم على التجريب والشغف- تُوسّع رويدًا رويدًا من خيارات الشعر والنثر معًا، وتتحلل من ضوابط الشكل الروائي.

والنصُ سرير، والليلُ هو المعنى.

ربما كانت نصوصي وردةً أخيرة في حديقة القلب، وسيرة غير رسمية للغرام، الذي ينقش القُبَل على الوجه والانحناءات، ويُروِّض الظُفرَ المتوحش والخواتم الآسرة.

تؤدّي الجُمَلُ الطويلة هنا دورًا مُفسِّرًا للجُمَل الأقصر منها الواقعة قبلها، أو هي تعيد المعنى من طريق إطالة الطريق إليه، وكأنّما الهدف هو الوصول إلى معنىً أكثر دقة، الأمر الذي يبرّر ورود جُمَل استنتاجية في معظم النصوص. أما الإيقاع فهو النغمة التي تهدي الكلام إلى الأرواح القارئة.

وكلما قصرت الجُمل، وتحررّرت النصوص الإبداعية من المحسّنات والموروثات والمبالغات البلاغية، لتقتصر على الحِس الشعري فحسب، غدتْ أخفّ شكلًا، وأشفّ مضمونًا، وأقرب إلى شَغَاف الحياة وطمأنينة النفس.

والكتابة يجب أن تكون عارية كما الحقيقة، وصادقة كما التأريخ.

تعالوا نسبرُ غورَ اللغة، عبر مكر المجاز.

ولأن اللغة تُظهِرُ وتُخفي، تكشف وتحجب، فإن هذا التمنُّع عبر التباسٍ يتغذى على الإيهام وينتجه، هو جزءٌ من سلطة النص، الذي نعمل على إنشائه بدأبٍ وشغف.

ولأن لكل كتابٍ يصدرُ لي طعمُ الحُبِّ الأول، فقد داومتُ على طُرق الغزل نفسها، موقنًا أن الغرام لغةٌ ليس بينها وبين القلب وسيط. الكِتابَةُ عندي بوحٌ، وخلوة مع الروح، وظلٌ نسيه الهجير.

هي ذلك السُلم الهش، الذي نرتقيه بكل حذرنا وطيشنا في آنٍ معًا، لنكتشفَ أن الأمنيات على بُعدِ خطوة لتتحقق.

وهي سَفَرٌ إلى جِهَةِ القلبِ، ويقينٌ وطمأنينة، مهما كانت الحروف تسير على الأشواك، لعل تلك الحروف تضيء لنا دروبَ الحياة الموحشة.

وفي الكتابة والغرام، لا توجد منزلةٌ بين المنزلتين.

مهمتي هي خلق نضارة في إدراكنا للأشياء والموضوعات، ومطاردة المعنى المختبئ، وإعادة الوعي بالتفاصيل والهويّة الإنسانية، ببلاغةٍ لا تعوق تدفق السرد، حتى وإن كان ذلك يعني هجرة إلى غير المألوف، لغويًا وجماليًا.

كتبتْ هذه النصوص نفسها عبر سنواتٍ طويلة، وليالٍ حضرتْ بجموحها كصهيل رغبةٍ معشوشبةٍ بالنار، وفقدتْ صوابها كصخب شهقةٍ وطقس اشتهاء يوشك أن يندلع، ثم استكانتْ مثل غبارٍ يصر على البقاء.

حكاياتٌ وشهاداتٌ وصور، سطَّرتُها، بالكتابة الحدية، والرؤى البارقة، أنا الذي كلما رأيتُ امرأةً جميلة حزنتُ؛ لأني سأنساها.

كيف صارت الحروفُ نصوصًا؟

لا إجابة أفضل من حقيقة أن السمكة تعيش في الماء طوال حياتها، لكنها تجهله. بكل التلقائية والعفوية تعزف أوركسترا الخلايا وتحدثُ الأشياء، التي لا نمتلك لها تفسيرًا.

فقط حين تقعُ هذه النصوص بين يدي قارئ حصيفٍ ومتذوقٍ بارع، تمور بالتوهج، وتصبح لاهوت الجمال. فإن ألهمتْ زاد ألقُها والتمعتْ كغبار الطـّلـْع وأطال الضّوءُ إقامتَه، وأما إن أُهمِلَتْ فإنها ستصير حوتًا رسا على الشاطئ وبقي متروكًا على السواحل المهجورة للأدب.

وهي كلها ترفعُ شعارَها البليغ: لا تُقنِنوا الدهشة. هي صندوقُ الخيال وبيتُ الحكايات الأثير.

ها هو صندوقُ الخيال بين أيديكم، بكامل تأنقِه ووافِر محبتي.

حتى غبار الكتابة، حجرٌ كريم.

أتمنى لكم قراءة تجمع بين الفائدة والمتعة.

-----

من مقدمة "10 قبلات منسية"




This post first appeared on قبل الطوفان, please read the originial post: here

Share the post

10 قبلات منسية

×

Subscribe to قبل الطوفان

Get updates delivered right to your inbox!

Thank you for your subscription

×