Get Even More Visitors To Your Blog, Upgrade To A Business Listing >>

المليونير

تساءل رواد مقهى السعادة الصباحيون عن سر الرجل البئيس الذي كان يجلس القرفصاء عند مدخل العمارة المقابلة. ظل الرجل في مكانه على الأسفلت حتى عندما تخلت عنه باكرا أشعة شمس الشتاء، وسلمته إلى برودة المساء، وبالكاد سمع بعض من دنوا منه كلمة إنني بخير، في حين أقسم الآخرون الذين رفع إليهم وجهه ورؤوا عينيه أنه مشروع مجنون. 
خرج من العمارة.. علق النادل. لقد أخرجوه. ثم لم يضف شيئا آخر. ولم يكن يعرف في الواقع شيئا آخر غير رؤيته لبواب العمارة وهو يدفع الرجل البئيس ليخرج. لذلك فقد اكتسى مدخل العمارة أهمية بالنسبة للمشفقين على الرجل وللفضوليين وللمارة، وتفحص الجميع البطاقات المعدنية الصفراء التي كانت تصطف عموديا على يمين الباب الكبير. كتب على السفلى طبيبة نساء وعلى الثانية محام ثم طبيب أسنان على الأخيرة.
كان السيد ابراهيم (وهو اسمه) واحدا من الناس العاديين الذين يمكن أن تلتقي بهم في الطريق، بل وممن سيبتسمون أو يبتدرونك بتحية الصباح والمساء. وإذا كان لا يحب رئيسه في العمل أو حماته التي يقطن في بيتها، فإن ذلك لا يجعل منه انسانا غير طبيعي، مثلما لا يجعله طول قامته البين ونحوله مخلوقا غريبا. ولن نبالغ إن قلنا أن السيد ابراهيم كان شخصا مسالما حد الضعف، يتقبل ملاحظات مديره مثلا بكثير
من سعة الصدر نفسها التي يتحمل بها الكلام المسموم لحماته عندما يعود إلى البيت. يتمدد ابراهيم في المساء بطوله ليشارك العجوز وزوجته تتبع مسلسل تلفزي تافه يكرهه. يفكر في البداية بتفاهة اهتماماتهما، ثم لا يلبث أن ينخرط في التعليقات وكفه تمتد إلى صحن الذرة.. وتمضي الأيام والليالي. لكن صباح الخامس من أكتوبر جاء ليقلب الموازين، وابراهيم يتوصل بمراسلة من أحد المحامين تخبره عن إرث كبير من أحد أقاربه.
انصرف بتثاقل عندما حل الظلام أغلب زبناء المقهى وهم يتحسرون لعدم تمكنهم من معرفة سر الرجل، ورمقوا الباقين بنظرة حسد لأنهم
سيعرفون القصة. أغلق البواب باب العمارة فرفع ابراهيم رأسه الذي كان يحشره بين ركبتيه. انتبه عندئذ إلى قطع النقود التي تجمعت عند قدميه. تناول منها حفنة وهو يضحك، فتحركت أعناق المتابعين وجفونهم تتحقق من المستجد. سمح ابراهيم وببطء شديد كما في الأفلام لقطع النقود لتسقط الواحدة تلو الأخرى، وأخذ حفنة أخرى ثم وقف:
- أنا مليــــــونيـــر
صرخ الرجل، وتقدم ليعبر الشارع دون اكتراث للسيارات والسائقين، ولكنه توقف وسط الطريق عندما تناهى إلى سمعه سبابهم له، وقذف
باتجاههم ما بكفه من نقود. ممكن؟ سأل صاحب أول طاولة في المقهى كأنه يطلب إذن مشاركته كأس الماء، ولكنه رفع الكأس وأفرغه في جوفه وعلى جنبات فمه وبذلته.. ورحل بخطوات متباعدة.
ظل السيد ابراهيم طيلة يومين من تسلمه الرسالة شاردا يفكر، ولم يهتم لمديره ولا لزوجته ومضايقاتهم له. وفي صباح اليوم الثالث طرق باب غرفة المدير، فكان استقبال هذا الأخير باهتا شأنه شأن كل المتكبرين. دنا منه ابراهيم في تلك اللحظة، وطبع على خده السمين صفعة تردد صداها في كل أرجاء الادارة ممزوجا بتهديدات المدير. لقد قدم ابراهيم استقالته. وعاد إلى البيت حيث استقبلته حماته لسوء حظها كذلك بسيل من أساليبها الماكرة في الاستهزاء.. فنالت حظها من كرمه ذلك اليوم. قال إنها بقرة وأكلت ماضيه وحاضره ولن يسمح لها بهضم مستقبله. ثم رحل.
كاد ابراهيم يطير فرحا وهو يصعد سلم العمارة قاصدا مكتب المحامي.. وانتظر منشرحا دوره ليقابل صاحب البشارة الذي سيفتح له على مصراعيه باب حياة جديدة ترمم ما بقي في روح الرجل الخمسيني من أمل وحلم بالسعادة. ثم جاء دوره. وبين أخذ ورد ومجاملات وترحم على روح الفقيد، سكت المحامي فجأة واختفت أو تضاءلت بسمته. تحدث الرجل عن عما سماه تفصيلا بسيطا.. تعوذ معه في سريرته ابراهيم من سوء المنقلب. ليتضح أنه شرط:
أن يكون الوريث قد استقر ما لا يقل عن ثلاث سنوات من الزواج والعمل. وانتهت المقابلة وتحطم الحلم وضاعت حياة ابراهيم..
وإذا ما رمتك الحياة يوما ما لتمر بجانب مقهى السعادة، أو غير بعيد عنها في السوق القريب، فلابد أن تحتاط من رجل طويل رث الهيأة القامة يصفع الناس، أو يمد أصبعيه ليتسلم سيجارة. أو ربما يصعد برفقتك سلم العمارة المعروفة، إذا تمكن من مراوغة البواب.. وقد يبتسم لك ويحدثك عن ملايينه وهو يقدم إليك ورقة قديمة عليها موعد الخامس من أكتوبر لمقابلة المحامي.  
    

              
    


     


This post first appeared on مدونة أكتب, please read the originial post: here

Share the post

المليونير

×

Subscribe to مدونة أكتب

Get updates delivered right to your inbox!

Thank you for your subscription

×